كيف يتعامل الدعاة مع السينما والفضائيات؟

في وسط ما نعيشه من ضخ هائل لإعلام التعري، الذي يعمل على ترسيخ عبادة الجسد وتقديس الشهوة في نفوس أبنائنا وبناتنا، نجد لزاماً علينا أن نرفع أصواتنا عاليا؛ أن كفّوا حالاً عن قتل قيمنا، وانتهوا عن الزج بمجتمعنا في أحضان الرذيلة.

يجب أن تتكاثف جهود المخلصين لحماية أخلاقنا من خطر الانهيار، بأن نأخذ على أيدي هؤلاء الذين يُحدثون خرقا واسعاً في قعر سفينتنا ليغرقونا في بحر الظلمات.

ولعلَّ معترض يقول - وقوله معتبر-: «ما عسانا أن نفعل في عصر الانفتاح الإعلامي الذي يقتحم علينا بيوتنا بغير استئذان».

والرد على المعترض هو أننا وإن كنا غير قادرين على إيقاف هذا البث الهدَّام، فإنَّ أمامنا عمل لا عذر لنا إن تقاعسنا عنه، ألا وهو استغلال ذات الانفتاح في بث قيم العفة والفضيلة والعطاء و الحرص على رضا الخالق عزَّ وجل.

إنَّ ما يسمّىَ فناً تلفزيونيا أو سينمائياً أصبح - بفعل سطوة الصورة المتقنة - أداةً طيّعةً لصناعة الأفكار، وتبديل القيم والمفاهيم، مما يجعل لزاماً على الراغبين في إصلاح الناس وتعريفهم بنبل ديننا الإسلامي الحنيف، أن يستفيدوا من هذه الأداة على أكمل وجه دون الاقتصار، على القصص التاريخية، والأسلوب المباشر في الطرح، وذلك بالاستفادة من تجارب الآخرين.

إن ما دعاني إلى هذا الطرح؛ هو ما شاهدته مؤخراً لنموذج سينمائي جيد، يخدم رسالة إنسانية، هذا النموذج هو فيلم (السواد)، الذي لو طلب مني أن أمنحه اسماً آخر لمنحته اسم (من يحسن العطاء لا يعرف المستحيل).

وأضع بين يديكم في عجالة ملخصاً لساعتين من الفن السينمائي الراقي.

الفيلم يحكي قصة طفلة ولدت عمياء صمَّاء بكماء، أُهملت ست سنوات من عمرها، فتركت منقطعة تماماً عن الاتصال مع العالم من حولها. أهل الفتاة ظنوا أنَّ ابنتهم مجنونة، إذ أنَّ سلوكها خلال السنوات الست تحوَّل إلى سلوك حيواني مزعج وعنيف.

شعرت أم الطفلة أنه لا بد من وجود حل، بحثت، فدلّوها على معلم متخصص في التعامل مع هذا النوع من الإعاقة، وجاء المعلم ليلتقي بالفتاة، ومن أول لقاء آمن أنَّها ليست مجنونة، وأنها قابلة للتعلّم، وبدأ رحلة طويلة من العلاج استخدم خلالها كل الوسائل التي عرفها بحكم تخصصه: اللمسات الصوتية، الإشارات الوصفية، والطريقة اللمسية الفيزيائية.

ولكن هذه الوسائل لم تكن لتجدي نفعاً، لولا إيمان هذا الرجل بهدفه، وإخلاصه في عمله.

وبعد جهد عظيم وصبر منقطع النظير؛ بدأت ثمرات العلاج تظهر، أول كلمة أتقنتها الفتاة هي كلمة (ماء) وذلك حين كانت تقف تحت رذاذ الماء، وكانت اللقطة مؤثرة للغاية، حيث كانت بداية الحياة لهذه الطفلة مع الماء الذي هو رمز الحياة المتجددة }وجعلنا من الماء كلَّ شيءٍ حي{.

ووضع المعلم تلميذته على أول السلم التعليمي، وأخذت هي منه الإصرار والتصميم إلى جانب اللغة والتواصل، فواصلت الدراسة؛ ترسب عاماً وآخر، ولا تيأس، حتى نجحت وأتمت دراستها الجامعية وهي بنت الأربعين، لكنها عند التخرج لم ترتد الروب الأسود كبقية زملائها، إذ أصرَّت أن يكون أول من يراها ترتديه هو معلمها الذي هو الآن في دار المسنين قد أصيب بالزهايمر بفعل تقدم العمر، وقد فقد كل ذاكرته حتى قدرته على الكلام، ووصلت الطالبة إلى معلمها حيث هو، تلبس ثياب تخرجها وتحمل شهادتها، أخذت بيده وأخرجتها من النافذة حيث المطر يتساقط، لتعلمه أول كلمة «ماء».

هنا ينتهي الفيلم وتبدأ الأفكار تجول في خاطري، تذكرت قول الله عزَّ وجل: }ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً{.

وجال في خاطري أنَّ إخراج الفتاة من ظلمات العزلة؛ أعظم منه وأحسن إخراج الناس من ظلمات الكفر بمنحهم القدرة على الاتصال بأرواحهم التي هي نفخة من روح خالقهم، بعد قطيعة نكدة استغرقت حياتهم فأصبحوا كما قال الله عزَّ وجل: }أموات غير أحياء{.

ووجدت عبرة بالغة للدعاة إلى الله الذين يفترض أنهم تعلموا الإصرار والتصميم من المعلم الذي أعاد الله به للدنيا نور بصرها، بعد أن غشيتها سحب الظلام، نبينا صلى الله عليه وسلم، خير من سار على قدم حين حمل ما لا تطيقه الجبال يوم قال: لا نوم بعد اليوم يا خديجة.

آن الأوان لكي نطرق أسماع الناس وأبصارهم، ليعيشوا حقيقة الرسالة ونبل غايتها وربَّاتَّية تعاليمها، وذلك قبل أن نهلك ويهلكون، ثم لعلهم إن ماتوا على ضياعهم؛ يأخذون بتلابيبنا يوم القيامة ليقولوا: يا ربنا هؤلاء الذين تركونا فريسةً لكل شاذ ومارق.