أسباب الفلاح في القرآن الكريم (8)

توظيف القوة العقلية.. دعوة في القرآن القرآن الكريم لا يفتر عن توجيه همم المسلمين نحو فعل الخيرات والإسراع إليها والتسابق في إنجازها لتكون الأمة على مستوى الرسالة الحضارية التي كلفت بحملها .
ومن الآيات التي لفتت عقول المسلمين إلى أسباب الفلاح قوله تعالى :يا أيها الذين أمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون(الحج :77) فهذه الآية من سورة الحج، وهي سورة تتحدث عن مناسك الحج وطرق أدائها، وهي كذلك تعطي القواعد العامة لأسباب الفلاح ونهضة الأمم والشعوب.
وعندما نتأمل سورة الحج، نجد أنها تدعو إلى توظيف القوة العقلية عند الإنسان في التفكير الإيجابي، والإبتعاد عن الجدل العقيم، قال تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد (الحج :3) وتدعو السورة أيضا إلى توظيف القوة الناطقة في انتقاء الفاظ الخطاب الإيجابي المثمر قال تعالى :وهدوا إلى الطيب من القول (الحج :24)، ودعت إلى توظيف القوة المالية في سد حاجة المجتمع من خلال إطعام المحتاجين والذين لا يجدون ما يسد جوعهم، وهذا من مقاصد تشريع ذبح الأضاحي في عيد الأضحى وإخراج زكاة الفطر في عيد الفطر، ومن مقاصد ذبائح الهدي في الحج، قال تعالى :فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير (الحج:28)، ودعت السورة أيضا إلى توظيف القوة البدنية في الطاعات، مثل الطواف حول الكعبة قال تعالى :وليطوفوا بالبيت العتيق فلا ريب أن سورة الحج أكدت على توظيف قوى العقل وقوى البدن وقوى المال في فعل الخيرات للوصول إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، وليس هذا شأن سورة الحج فقط، بل إن جميع السور القرآنية تضعنا أمام معجم مفردات الخير؛ لنعمل على إيجادها في واقع الحياة، لذا يكثر في القرآن العظيم الحث على إعانة الفقراء والأيتام، وفعل الخير مع عموم الناس، قال الناظم :
الله أكبر إن دين محمد
وكتابه أقوى وأقوم قيلا
لا تذكر الكتب السوالف عنده
طلع الصباح فأطفىء القنديلا
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن في الجنة غرفا ترى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي فقال لمن هي يا رسول الله ؟ قال: لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام (رواه الترمذي).
ومن هنا نجد الثقافة القرآنية تؤكد مرة تلو المرة على فعل الخير وصلة الرحم والصبر على الناس وتوظيف الطاقات الإنسانية في تحقيق فكرة الخير ومشاريعها .
هذا الوعي بفكرة الخير جعل إماما مثل أبي حنيفة النعمان لا يشغله تدريسه الفقهي عن هموم جيرانه حيث يروى أنه كان لأبي حنيفة جار وكان أبو حنيفة يسمع جاره ينشد:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
فافتقد أبو حنيفة صوت جاره فسأل عنه فقيل له إنه مسجون فذهب الإمام وتشفع له للخروج من السجن فخرج فقال له أبو حنيفة هل أضعناك فقال له جاره بل حفظت (إتحاف السادة المتقين للزبيدي ج1ص573) نعم فجار الكرام ليس يضام.