عدُّ الجامعات مناراتٍ للعلم والمعرفة بما تختزنه من طاقات فكرية وثقافية وإبداعية تتمثّل بكفاءات بشرية تمتلك مخزوناً معرفياً في شتى مجالات الحياة ، ينهل منه الطلبة ما يحقّق لهم التميّز في مجال تخصصهم ليكونوا قادرين على مواجهة أعباء الحياة وتحدّياتها ، والقدرة على بناء شخصية متوازنة جسدياً وروحياً بما يكفل لها الانخراط في مجتمعها بثقة عالية وقادرة على التأثر والتأثير ، وتشكيل منهجٍ معتدلٍ في التعامل مع الآخر بحكمة وعقلانية . إن كثيراً من الطلبة في الجامعات حادوا عن الهدف المرسوم لهم ، واستبدلوه بسلوكيات خرجت على الأنظمة والتعليمات الرسمية ، ومن مظاهره : الانخراط في ركب الفوضى, والتمرُّد على الانضباط, وعدم الالتزام بالمحاضرات, وأدب المحاورات ، والجلوس على أرصفة الشوارع والممرات, والصالونات وقذف المارة بالقيل والقال ، والتعرّض للآخرين بالشتم والسب لا لشيء إلا لأنهم طالبوهم بالنظام أو أشاروا لهم بالبنان، وقد يتطوّر الأمر إلى عراك بالأيدي, ورمي بالنّعال أو الحجارة أو بالمشرط والسّكين ، ويتعاظم المشهد ليضمّ شخوصاً متمرّسين في فنون المخاصمات والحروب ، وتبلغ الذروة في استخدام السلاح, ليسقط على الأرض بعض الضحايا, ربما يكونون من الأبرياء ، ويتطوّر المشهد أكثر حينما يقتحم حرم الجامعة أناس مندسّون, فيختلط الحابل بالنابل ، ويشتد الصراع, وتتطور المشكلة, لتجمع في نهاية المطاف فريقين من الشرق والغرب ، أو الشمال والجنوب ، أو عائلة من هنا وعائلة من هناك ، والأكثر حزناً وألماً في ذاك المشهد ما تراه من الشباب في لبِّ المعركة ، وحينما تسأله عن المشكلة يجيب ببلادة وعصبية ، لا أدري, ولكن عزّ علي أن أرى ابن عمِّي أو ابن قريتي يُساء له وأنا على الحياد ، ويستطرد قائلاً : إنها النخوة والفزعة . لعلّ ثمة أسباب تدفع مثل هؤلاء إلى هذه المغامرات, فمنها ما يعود إلى التنشئة الاجتماعية التي نهض عليها الابن, وتربّى فيها على العنف, والضرب, والإهانة, والشتم داخل الأسرة المفككة, ومنها رفاق السوء الذين سلكوا دروب الغواية والفساد وخرجوا على كل القيم والأخلاق, فنراهم يتحلّلون من أبسط القواعد الأخلاقية والعادات والتقاليد الاجتماعية , ويطول الحديث حول الدوافع والأسباب والنتائج المترتبة على ذلك ، ولست هنا معنياً في استقصائها ودراستها ، فقد تناولتها دراسات كثيرة وأفاضت في الحديث عنها بإسهاب وتفصيل . لعلّ الجامعة المتميّزة في الارتقاء بطلبتها جامعة الحسين بن طلال ، ولا يعني ذلك مثاليتها أو براءتها مما يحدث من أعمال تخلّ بالنظام والعادات والتقاليد بصورة مطلقة ، ولكنني أجزم أن طلبتها يظلون الأكثر التزاماً باللوائح القانونية والأخلاقية الناظمة لعلاقاتهم فيما بينهم من جهة, ومع العاملين في الجامعة من جهة أخرى ، فعلى مدار عشرة أعوام خلت- ومن خلال تشرُّفي عضو هيئة تدريس في الجامعة – لم يسقط طالبٌ واحد ضحيّة عنف طلاّبي ، وما يحدث من مشاجرات أو خلافات يكون آنياً ، وسرعان ما تعود الفتنة إلى أدراجها ووكرها على استحياء وخجل ، لأن موقظيها خدعوها ,وأقظّوا مضجعها ، وحينما يوقظونها ثانية تقف في وجههم حاسرة ذليلة منكّسة هامتها, لتقول لهم : جامعة الحسين بن طلال فيها أُسودٌ نشامى متحصّنون في قلاع شامخة ,يستمدون رؤيتهم في الحياة من اسم الراحل العظيم المغفور له الحسين بن طلال وشبله الهاشمي الشجاع جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين ، فلا طاقة لي اليوم على الصمود أو التحدّي ، فمعذرة أحبّتي وأتباعي فلا حياة لي بينهم . وتستطرد الفتنة بالقول: لقد سئمت النوم والاسترخاء في زوايا هذه الصّرح ، ورموني بالعقم , فأكثروا عقوقي وعصوني ، بل رجموني وألقوني تحت النّعال ، وهأنذا كنت منذ أزمعت الإقامة في هذا المكان ، فما عادت لي حياة ، وحينما يوقظني بعض أنصاري أتنفّس الصُّعداء, ولكن سرعان ما تكتم الأنفاس ,ويُخنق صوتي ,وتتقوّض قوتي, وأفقد اتّصالي مع أحبابي، وتستمر حياتي على شاكلة الأموات ، وأستغيث بأخواتي البارعات في الجامعات ، فيحاولن مدّي بالمعونات وشحني بالطاقات ، ولمّا تقترب مياه الحياة إلى شراييني, يختطفها الطلبة في جامعة الحسين بن طلال ، تُعانق عزيمتهم قمم الجبال, وتطاول إرادتهم ناطحات السّحاب ، ويتسلل في جنح الظّلام صوت خفيّ إلى سمعي ، ينادي على استحياء, هيّا رفيقتنا إلى السّاحات تقتنص ضحايانا الذين ما زالوا حيارى تائهين قبل انخراطهم في سجل العِظام ، فتستعصي عظامهم على النّار التي تطفئها ثلّة من السابقين عليهم في الدِّراسات ، وبصمت ورويّة وتريّث نزجّ أنفسنا وسط الزّحام ، ولكن الكبار يرمقوننا بالعيون ,ويحرسون الصِّغار ، ويحذِّرونهم من الإنضمام والانخراط في سجلّ الخيال . وتندحر الفتنة حينما لا تجد لها الأتباع والأنصار في جامعة أغلى الرّجال من الطّلاب الذين نذروا أنفسهم للعلم والمعرفة ، وراحوا ينصهرون في بوتقة واحدة من شتى االأصول والمنابت ، ليضربوا أروع الأمثلة في النظام والأخلاق والتربية الحسنة والآداب الفاضلة ، طلبة صغار بأيّامهم, وما مضى من سنيِّ أعمارهم ، ولكنهم بتعاملهم وسلوكهم كالكبار ، تراهم في محاضراتهم أسرة واحدة تعاوناً واحتراماً وشفافية في المحاورات وأدب في المناظرات ، لا يملك عضو هيئة التدريس إلا أن يبادلهم حبَّ الأب لأبنائه, وحناناً, وعطفاً يفرضونه بحسن حديثهم, ولطف لسانهم الذي يُشحذ على الدّوام بأجمل المفردات المضمّخة باللطف واللين , إنّهم الشّباب الكبار ونعم الكبار هم ، إنهم الأبناء والبنات تتراقص على محيّاهم البراءَات التي تترفّع عن الكبرياء والخيلاء . لعلّ من يقرأ مقالتي هذه يتهمني بالمغالاة والغلوّ ، لكنني سأطرح غيضاً من فيض الموافق المشرفة لأبنائنا الطلبة في الجامعة : فقبل ما يربو على الشهر غيّب الموت زميلاً فاضلاً من زملائنا في ضواحي العاصمة عمان ، فإذا بنا نفاجأ بمشاركة أكثر من عشرين طالباً يحملون النعش الطاهر – بإذن الله – على أكفِّهم والدّموع تتساقط على خدودهم كأنّهم إخوة في أسرة واحدة ووالدهم من يُحمل ، ويوارونه التراب ويلقون عليه نظرات الوداع الأخير, يحثّون عليه التراب بحسرة وألم عزّ نظيرها في مشهدٍ يصعب على المرءِ معه النسيان, ويُقدمون العزاء للأهل وكأنهم هم الأهل . ومثلما يشاركون في أحزان أساتذتهم, يشاركون أقرانهم من الزملاء ، وتراهم حاضرين فاعلين في مناسبات الأفراح, والأكثر إعجاباً بأبنائنا الطلبة ,حينما يدفعهم دينهم الإسلامي الحنيف إلى تقديم العون والمساعدة لزملائهم ممّن ضاقت بهم الحياة . لعلّ فيما مضى من حديث يفجِّر في النفس الاعتداد بهذه النخبة الواعية المؤمنة التي عملت دون كلل أو ملل بدافعٍ تلقائي وفطري ، لأنها نشأت في بيئة إيمانية محافظة على القيم والشهامة والإباء ورفض الدنيَّة ، وما من شكٍّ فإن البيئة التي احتضنت هؤلاء هي التي لعبت دوراً متميّزاً في صقل هذه الشخصية, وتهذيبها, وتربيتها هذه التربية الصالحة ، ولعلّ قدوة هؤلاء الطلبة هم من العاملين في الجامعة رئيساً ,وأساتذة, وإداريين هم الذين غرسوا مثل هذه السلوكيات النبيلة في نفوسهم ، فغذّوها بعلومهم وتجاربهم وفكرهم وسلوكهم ,وتعهدّوها بالعناية والرّعاية, فنضجت وآتت أكلها كل حين . أبنائي الطلبة في جامعة الحسين بن طلال, بارك الله فيكم جميعاً ,وجعل كل عمل لوجه الله تعالى تقومون به في ميزان أعمالكم ، فأنتم الغراس التي نأمل فيها كل الخير لجامعتكم ووطنكم ، استمروا على النهج القويم, وعظّموا الإنجازات, وابنوا القلاع على القلاع ، ولا تنظروا إلى سفاسف الأمور, فالكبير يسمو على الصغائر ، انظروا إلى مستقبلكم ,وتعلّموا كيف يعلو البناء, وتنهض الأمم والشعوب بالحكمة والموعظة الحسنة، ولتكن الأخلاق الكريمة الفاضلة عنوانكم في الحياة ، فبها ترتقي الأُمم ويعلو البنيان ، والأخلاق إن كانت قرينة العلم , نهضت الجامعة ,وافتخرت بكم الأوطان, فالعلم العلم والأخلاق الأخلاق, لأن العلم يبني, والجهل يهدم ، وقد صدق الشاعر حينما قال : العلم يبني بيوتاً لا عماد لها والجهل يهدم بيوت العزّ والكرم والأخلاق هي الضمانة للأمة بالمسيرة والبقاء ، فإن تقوّضت عروش الأخلاق انهارت الأُمم وانحطّت الحضارات . إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا وأختتـم مقالتي هذه بقوله تعالى : قل هـل يسـتوي الذيـن يعلمون والذين لا يعلمون وقوله تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء . وفّقكم الله أبنائي الطلبة, وسّدد على طريق الخير خطاكم ,وأنتم تنعمون بفيء الأمن والعلم والمعرفة التي نقطف ثمارها من جنان أردن الخير والبركة والنعيم الذي نستظله تحت خيمة أبي الحسين أعزّ الله ملكه ,وأدام عرشه .